ملخص الخطبة
1- المحبة الصادقة تستلزم الطاعة والانقياد التام. 2- قراءة القرآن بتدبر من أعظم الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى. 3- النوافل تكمل نواقص الفرائض. 4- دوام ذكره تعالى سب لرفعة الدرجات. 5- عند نزعات الهوى تظهر المحبة الصادقة. 6- معرفة الله تعالى تحصل بمطالعة أسمائه سبحانه وصفاته. 7- على قدر المحبة تكون الطاعة والعبادة.
إن هذه الأجساد التي نحملها، والأعضاء التي نحركها، لا يمكن أن نسيرها إلا بمشيئة الله تعالى، ثم بحسب مشاعرها التي تكنها بين جنباتها، فهي للمشاعر تبع، ولا يمكن أن تعرف مُحبًا لشيء ولا مبغضًا له إلا بفعله تجاهه وموقفه منه، لا بكلامه وإن كثّّره وزيّنه وحلف عليه، والعمل كثيراً ما تلحقه الآفات والنقائص، أما إذا استجمع العبد في قلبه محبة صادقة خالصة دائمة لله ورسوله، فإن ذلك يعوض نقصان عمله، فالمحبة يزكو بها العمل ويبارك بها في الجهد، والعمل برهانها ودليل وجودها.
واسمع ـ يا رعاك الله ـ إلى هذا الحديث الصحيح، الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ورواه الصحابي الجليل أنس بن مالك : أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ: فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ((وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)) قَالَ: لا شَيْءَ إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ))، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ، فلماذا فرح الصحابة يا ترى بهذا الحديث من رسول الله كل هذا الفرح بعد فرحهم بدين الإسلام؟
ذلك أنهم عرفوا بأن الصدق في محبة الله تعالى ورسوله ، يدرك بها المرء منزلة عالية عند الله، قلما توصل إليها الأعمال، فمحبة الله عز وجل رأس كل أمر، وهي كما قال ابن القيم رحمه الله: "قوت القلوب وغذاء الأرواح، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات".
ولكن ينبغي لك ـ أيها المسلم المبارك ـ أن تستيقظ وتنتبه، وتعلم أن هذه المحبة لله لا تنفصل عن العمل، بل العمل ثمرة من ثمارها، فالمحب لا يستغني عن طاعة محبوبه، فكما أن كل عمل يؤدى بلا محبة لا روح فيه، فكذلك كل محبة تُدّعى بغير عمل لا صدق فيها، بل كل إيمان يُزعَم بدون محبة ولا عمل فلا حقيقة له، قال ابن تيمية رحمه الله: "محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان والدين، كما أن التصديق أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله ورسوله".
فإذا أردت ـ أيها العبد ـ أن تبرهن على صدق محبتك لله، وأن تحصّل أصل تلك المحبة، فلا بد لك من العمل، بل إذا أردت أن ترقى أعلى من منزلة المحب لله، إلى منزلة المحبوب من الله، فعليك بالعمل في طاعة الله، فبدون العمل لن يكون لديك كبير أمل، وقد جمع لك الإمام الهمام شمس الدين بن قيم الجوزية رحمه الله لآلئ عشرًا من الأعمال الصالحة، والأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى، والتي ترفع مقامك عند الله عز وجل، وقد نظمها لك في عقد لعلك تتزين به ظاهراً وباطنًا، وإليك هذا العقد فاجعله حول عنقك تزهو به بين العباد، إن كنت من الباحثين عن الترقي في مدارج السالكين إلى ربهم، وإن كنت من الذين يسمعون ولا يعقلون، ولا يدركون أنهم هم المعنيون، فلا أملك لك من الله شيئاً، إن أراد الله أن يحول بينك وبين ذلك، فأعرني ـ يا هذا ـ سمعك وقلبك، وانتبه من نعاسك، فإنك في مجلس يحبه الله تعالى، وإليك أول لؤلؤة من ذلك العقد:
قراءة القرآن بتدبر وتفهم لمعانيه وما أريد به، وأن تعلم أن ما تقرؤه ليس من كلام البشر، وأن تستحضر عظمة المتكلم به، قال ابن الصلاح: "قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، فقد ورد أن الملائكة لم يُعطوا ذلك، وأنها حريصة على استماعه من الإنس". واعلم ـ حفظك الله ووقاك ـ أن قراءة القرآن شرف لك ما بعده شرف، لهذا فإن رجلاً من أصحاب النبي استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة، فتدبرها وأحبها، وهي سورة الإخلاص التي فيه صفة الرحمن جل وعلا، فظل يرددها في صلاته، فلما سئل عن ذلك قال: (لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرا بها) فقال النبي : ((أخبروه أن الله يحبه)) البخاري ومسلم. قال عبد الله بن مسعود : (من أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله).
وهاك اللؤلؤة الثانية: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وإليكم هذا الحديث، فعن طَلْحَةَ بْنَ عبيد الله قالُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ)) فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: ((لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ)) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَصِيَامُ رَمَضَانَ)) قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: ((لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ)) قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: ((لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ)) قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّه لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ)) البخاري ومسلم.
واستمع إلى هذا الحديث الذي فيه بشارة للمتقرب إلى الله بالنوافل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)) البخاري.
ومن فوائد النوافل ـ أصلحني الله وإياك ـ أنها تجبر النقص في الفرائض: كما صح في الحديث: ((انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمَّل بها ما أنتقص من الفريضة)) وتقربك من محبة الله.
أخي المبارك، أود هنا أن أعطيك اللؤلؤة الثالثة فهل أدركت ما سبقها؟ ألا وهي دوام ذكر الله تعالى على كل حال، باللسان والقلب والعمل، فنصيبك من المحبة على قدر نصيبك من الذكر لله تبارك وتعالى، عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْثُرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: ((أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ)) رواه أحمد. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)) قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً)) البخاري. وجاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام كثرت عليّ، فباب نتمسك به جامع، فقال : ((لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)) رواه أحمد.
وإني على يقين أنك في لهفة وشوق إلى الحصول على اللؤلؤة الرابعة لنظمها مع أخواتها، فهاك إياها نفع الله بها قلبك وأقر بها عينك: إيثار محابه تعالى على محابك عند نزعات الهوى، إي إيثار رضى الله على رضى غيره وإن كانت نفسك، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطَّول والبدن، وإن كان في ذلك ما يغضب الخلق، وهذه درجة عالية حازها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأولي العزم من أتباعهم، فالعبد الكيس الفطن لا يعطي لنفسه العنان أينما توجهت به اتجه، وما اشتهت اشتهى، وثبت عنه أنه قال: ((المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل)).
قال الناظم:
إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعـار الذي دعته إليه من حلاوة عاطـل
وقال الآخر:
فخالف هواها واعصها فمن يطع هوى نفسه تنزع به شر منـزع
ومن يطع النفس اللجـوجة تُرْدِه وترم به في مصرع أي مصـرع
والسبب الخامس من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى تلك اللؤلؤة الثمينة وهي: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ومشاهدة آثارها ومعرفتها في الكون والأنفس، وسائر المخلوقات، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته أحبه الله لا محالة، والمعرفة ـ أيها المسلمون ـ هي إدراك الشيء على حقيقته، وهي أخص من العلم وضدها الإنكار، والعارف بالله هو من عرفه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص في قصده ونيته، ثم انسلخ من الأخلاق الرديئة، وتطهر من أوساخ الذنوب والرذيلة، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلائه،
هذه جواهر خمس من الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله تعالى، وهي بحق تستحق العناية والرعاية، لأن فلاحك وفوزك ـ أيها العبد ـ متوقف عليها بإذن الله.
نفعني الله وإياكم بما سمعنا، ورزقني وإياكم محبته والصدق في ذلك، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...