السؤال
ما حكم أكل الطيور والحيوانات التى تتغذى على النجاسات ؟
الجواب
ثار الجدل فى هذه الأيام حول لحم الدجاج الذى يضاف إلى علفه بعض المواد النجسة أو الكيماوية التى تسرع نموها وتزيد حجمها أو وزنها ، وكان محور الجدل فى نقطتين ، إحداهما صحية والأخرى دينية .
وقد اختلف ذوو الاختصاص والخبرة فى تأثير ذلك على صحة الإنسان ، ما بين مثبت للضرر ، وبخاصة فى علاقته بالفشل الكلوى والسرطان ، وناف لهذا الضرر ، وبخاصة بهذه الصورة الرهيبة ، مع إشارة بعضهم إلى أن ما يمكن أن يكون من ضرر فهو ليس بهذا الحجم الذى يحرم تناول هذه اللحوم .
ومبدئيا نقول : مادام لم يجزم أهل الذكر بوجود الضرر البيِّن الذى يؤثر تأثيرا بالغا بالصحة والمال والعقل وسائر ما حاطه الإسلام بالرعاية من أجل تأدية الإنسان وظيفته فى الحياة على الوجه المطلوب ، فلا وجه للقول شرعا بمنع تناوله لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما ، فما دامت العلة ، وهى الضرر المذكور غير محققة فالأصل فى الأشياء الحل ، فإن تحققت كان المنع ، وقد جاء الشرع لتحقيق المصلحة ومنع المفسدة ، والله سبحانه يقول { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } البقرة :195 والنبى صلى الله عليه وسلم يقول فى الحديث " لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه والدارقطنى وغيرهما مسندا :
ورواه مالك فى الموطأ مرسلا ، كما قال النووى فى متن " الأربعين حديثا النووية " وقال : حديث حسن .
وعلماء الإسلام تحدثوا عن هذا الموضوع من قديم الزمان بناء على نصوص وردت فى ذلك منها :
1 - عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس .
أخرجه الدارقطنى والحاكم والبيهقى ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال البيهقى : ليس بالقوى .
2 - عن ابن عمر أيضا : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها ، رواه الخمسة إلا النسائى . وقال الشوكانى " نيل الأوطار ج 8 ص 128 " : حسَّنه الترمذى ، واختلف فيه على لد ابن أبى نجيح " فقيل :
عن مجاهد عنه ، وقيل : عن مجاهد مرسلا، وقيل : عن مجاهد عن ابن عباس .
3 - عن ابن عباس رضى الله عنهما : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلاَّلة ، رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وصححه الترمذى ، وقال الشوكانى : ،وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقى ، وصححه أيضا ابن دقيق العيد ، ولفظه : وعن الجلالة وشرب ألبانها .
4 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحُمر الأهلية ، وعن الجلالة ، عن ركوبها وأكل لحومها رواه أحمد والنسائى وأبو داود- وقال الشوكانى : أخرجه أيضا الحاكم والدارقطنى والبيهقى ، وفى الباب عن أبى هريرة مرفوعا ، وفيه النهى عن الجلالة ، قال فى التلخيص : إسناده قوى .
هذا بعض ما ورد عن الجلالة ، والكلام فى هذا الموضوع يدور حول تعريف الجلالة ومناط النهى ، ودرجة هذا النهى وما ينبغى أن يتخذ حيالها . وما هو المنهى عنه منها .
أ- فالجلالة هى كل ما يتناول العَذِرَة - بكسر الذال - و الأرواث ، مأخوذ من الجَلَّة-بفتح الجيم -وهى البعرة ، وهى تشمل الإبل والبقر والغنم والدجاج و الأوز وغيرها من كل ما يتناول هذه المواد .
قال العلماء : ولا يطلق عليها وصف الجلاَّلة إلا إذا كان غالب علفها من النجس ، كما جزم به النووى فى تصحيح التنبيه ، يقول الخطابى : فأما إذا رعت الكلأ و اعتلفت الحب ، وكانت تتناول مع ذلك شيئا من الجلة فليست بجلالة ، وإنما هى كالدجاج المخلاّة ونحوها من الحيوان الذى ربما نال الشىء منها وغالب غذائه وعلفه من غيره ، فلا يكره أكلها ، وجاء فى حياة الحيوان الكبرى للدميرى " مادة سخلة " قوله واختلفوا فيما يناط به الحرمة و الكراهة ، فقال الرافعى عن " تتمة التتمة " : إنه إن كان أكثر أكلها الطاهرات فليست بجلالة ، والأصح أنه لا اعتبار بالكثرة ، بل بالرائحة ، فإن كان يوجد فى مرقتها أو فيها أدنى ريح النجاسة وإن قلَّ فالموضع موضع النهى ، وإلا فلا ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن موضع النهى ما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو كانت تقرب من الرائحة ، فأما إذا كانت الرائحة التى توجد يسيرة فلا اعتبار بها ، والصحيح الأول ، إلحاقا لها بالتغير اليسير بالنجاسة فى المياه :
فإن علفت الجلالة علفا طاهرا مدة حتى طاب لحمها وزالت النجاسة زالت .الكراهة ، ولا تقدر مدة العلف عندنا بزمن ، بل المعتبر زوال الرائحة بأى وجه كان .
ب - يؤخذ من هذا أن مناط النهى هو وجود رائحة النجاسة وتغير اللحم أو اللبن أو البيض ، وذلك تابع فى الغالب إلى كثرة ما تعلف به الدابة من النجاسة أو قوة تأثيره ، يقول الدميرى : ثم إن لم يظهر بسبب ذلك تغير فى لحمها فلا تحريم ولا كراهة ، ويقول القرطبى فى تفسيره "ج 7 ص 122" بعد ذكر الجلالة : هذا نهى تننزيه وتنظف ، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهى العذرة وجدنتن رائحتها فى لحومها .
ب - فإذا وجدت الرائحة أو تغير اللحم طعما وقال العلماء بمنع تناول لحمها وما ينتج عنه . فما هى درجة هذا المنع هل هى الحرمة أو الكراهة ؟ يقول الشوكانى : والنهى حقيقة فى التحريم فأحاديث الباب ظاهرها تحريم أكل لحم الجلالة وشرب لبنها وركوبها ، وقد ذهبت الشافعية إلى تحريم أكل لحم الجلالة ، وحكاه فى البحر عن الثورى وأحمد بن حنبل ، وقيل : يكره فقط ، كما فى اللحم المذكى إذا أنتن قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لو غذَّى شاة عشر سنين بأكل حرام لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره ، وهذا أحد احتمالى البغوى .
قال الدميرى فى السخلة المرباة بلبن كلبة أن لها حكم الجلالة ، فيكره أكلها كراهة تنزيه على الأصح فى الشرح الكبير والروضة والمنهاج ، وبه جزم الرويانى والعراقيون . وقال أبو إسحاق المروزى و القفال : كراهة تحريم ، ورجحه الإمام الغزالى والبغوى والرافعى فى المحرر .
ثم قال الدميرى: وسئل سحنون "من فقهاء المالكية "عن خروف أرضعته خنزيره فقال : لا بأس بأكله ، وقال الطبرى : العلماء مجمعون على أن الجَدى إذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيره لا يكون حراما ولا خلاف فى أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة ، وقال غيره : المعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك فى الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة ، فقد نقله الله تعالى وأحاله كما يحيل الغذاء ، وإنما حرم الله تعالى أكل أعيان النجاسات المدركات بالحواس ، كذا قاله أبو الحسن على بن خلف بن بطال القرطبى فى شرح البخارى [ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة ، وهو أحد شيوخ أبى عمرو بن عبد البر رحمة الله تعالى عليه ] انتهى ما فى الدميرى .
د - وإذا كان المنع من أكل لحم الجلالة وشرب لبنها منوطا بوجود النتن والتغير فى الطعم والرائحة ، فكيف تزول هذه العلة حتى يزول المنع ؟ قال جماعة : يكفى زوال الرائحة والطعم بأية وسيلة من الوسائل ، و قال آخرون : لابد من حبس الدابة مدة حتى تزول الرائحة . وقال جماعة من هؤلاء لابد مع الحبس من العلف الطيب ، وبدون ذلك يكره أكل اللحم وشرب اللبن ، جاء فى تفسير القرطبى : وقال أصحاب الرأى والشافعى وأحمد : لا تؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها ، - يعنى غير الجلة - فإذا طاب لحمها أكلت . وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثا ثم يذبح ، وقال إسحاق : لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلا جيدا ، وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل لحم الجلالة ، وكذلك مالك بن أنس .
ويقول القرطبى : ومن هذا الباب نهُى أن تلقى فى الأرض العذرة عن ابن عمر أنه كان يكرى أرضه ويشترط ألا تُدْمن - تُسَمَّد - بالعذرة ، وروى أن رجلا كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر : أنت الذى تطعم الناس ما يخرج منهم . انتهى .
يقول الدميرى فى كتابه حياة الحيوان " مادة دجاج " و فى الكامل والميزان فى ترجمة غالب بن عبد الله الجزرى وهو متروك -عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياما ثم يأكلها بعد ذلك . وذكر فى مادة " سخلة " حديث ابن عمر فى نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس .
وجاء فى" نيل الأوطار "للشوكانى : قال ابن رسلان فى شرح السنن : وليس للحبس مدة مقدرة ، وعن بعضهم : فى الإبل والبقر أربعين يوما ، وفى الغنم سبعة أيام ، وفى الدجاج ثلاثة ، واختاره فى المهذب والتحرير ، قال الإمام المهدى فى البحر : فإن لم تحبس وجب غسل أمعائها ما لم يستحل ما فيه استحالة تامة ... وقد اختلف فى طهارة لبن الجلالة ، فالجمهور على الطهارة ، لأن النجاسة تستحيل فى بلطنها ، فيطهر بالاستحالة ، كالدم يستحيل فى أعضاء الحيوانات لحما ويصير لبنا .
ويقول الدميرى فى " مادة سخلة " بعد نقل ما قيل عن مدة الحبس وأنها محمولة على الغالب عندهم : فإن لم تعلف لم يزُل المنع بغسل اللحم بعد الذبح .ولا بطبخه وشَيَّه وتجفيفه فى الهواء وإن زالت الرائحة بمرور الزمان عند صاحب التهذيب ، وقيل بخلافه .
ر- هذا ، والممنوع فى الجلالة بوصف كونها جلالة ، هو أكل لحمها وشرب لبنها وكذلك أكل البيض ، وأيضا حمل الأمتعة عليها ، وركوبها بغير حائل بين ما يحمل عليها وبين جلدها ، وذلك على سبيل الكراهة فى الركوب .
بعد العرض لأحاديث الجلالة وأقوال العلماء نستخلص أن الدواب التى يخلط علفها بمادة نجسة ولم يظهر فساد فى لحمها أو لبنها أو بيضها ، ولا ضرر فى تناوله لا يحرم أكل ذلك ولا يكره ، لزوال علة النهى وهى الفساد ، أما إن كان علفها كله من مادة نجسة وظهر فساد اللحم واللبن والبيض فالخلاف موجود بين الحكم بالحرمة أو الكراهة التحريمية أو الكراهة التنزيهية ، وإن لم يكن فساد فلا حرمة ، والأولى علفها بمادة طيبة مدة من الزمان حتى تقبل النفس عليها ، فإن بعض النفوس لا تقبل الحلال الذى لا شك فى حله ، فقد امتنع النبى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الضب وهو حلال ، وجاء فى الصحيحين أنه قيل له : أحرام هو ؟ قال " لا ، ولكنه لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه " وفى رواية مسلم " لا آكله ولا أحرمه " وفى رواية " كلوه فإنه حلال ، ولكنه ليس من طعامى " . وكلام الأطباء والمختصين فى هذا المقام له وزنه إن أجمعوا عليه